النار والجن ! هل النار شيء مادي أم هي شيء آخر غير المادة ؟

النار بمفهومها العامِّي يُقصد بها ذلك اللهب المتوهج الذي نلاحظه عند احتراق المواد القابلة للإحتراق بالاضافة إلى الحرارة الناتجة عن الاحتراق والتي تشكل خطورة على الكائنات الحية، لأنها قادرة على حرقهم والتسبب لهم في أضرار خطيرة كما أنها قد تتسبب في موتهم.

نار مشتعلة

▪لكن ما هي النار من الناحية العلمية ؟

ما نسميها بالنار في حياتنا اليومية هي في حقيقة الأمر نتيجة لمجموعة من التفاعلات الكيميائية تسمى بتفاعلات الاحتراق، لأن هذا النوع من التفاعلات الكيميائية يَنتج عنه لهب متوهج يضيء الوسط الذي تتم فيه، بالإضافة إلى الحرارة. الوقود الأساسي لهذه النار هو ثنائي الأكسجين المتواجد بالهواء بالإضافة إلى عنصري الكربون والهيدوجين اللذان يوجدان في جميع المواد العضوية بجميع حالاتها الفيزيائية، الصلبة منها، السائلة، والغازية.

صلبة (خشب)سائلة (بنزين)غازية (بوتان)
مواد عضوية قابلة للاحتراق

هذا النوع من التفاعلات الكيميائية يتميز بخاصيتين أساسيتين، أولهما أنه لا يمكن أن تتم دون أن يتم تحفيزها بالحرارة حتى تصل إلى مئات الدرجات لكي يبدأ التفاعل، لأن هذا النوع من التفاعلات يكون مُتوقفا حركياً رغم إمكانيته تيرموديناميكياً، أي أنه رغمكون التفاعل بين هذه المتفاعلات ممكن وسريعا جداً فإنها لا تستطيع البدأ في التفاعل من تلقاء نفسها في ظل غياب مُحفز يرفع من درجة حرارة الوسط، فلكي يبدأ التفاعل يجب أن تكون أولاً الاصطدامات بين ثنائي الاكسجين والميثان قوية حتى يتم كسر الروابط بين الذرات التي تكَّون جزيئات المتفاعلات ثم يُعاد ارتباطها بطريقة مختلفة، وهذا هو الدور الذي تقوم به عملية التسخين عبر تقريب لهب من الورق مثلاً. عبر التسخين بواسطة فرن أو لهب نستطيع أن نزيد من الطاقة الحركية الميكروسكوبية للمتفاعلات فيما بينها، مما يزيد من قوة الاصطدامات العنيفة؛ الشيء الذي ينتج عنه بذلك اَنطلاق التفاعل، والخاصية الثانية التي يتميز بها هي أنه تفاعل مُحرر للحرارة أي أنه لا يحتاج إلا لكمية حرارية بدئية لكي ينطلق التفاعل ثُم بعد ذلك سيستمر تحفيز التفاعل ذاتياً عبر الحرارة التي يُحررها التفاعل، ويمكن أن نضرب على ذلك مثالاً لتفاعل الاحتراق بين غاز الميثان وثنائي الأكسجين حسب التفاعل التالي :

CH₄ + 2O₂ —-> CO₂  + 2H₂O

يتم خلال هذا التفاعل تفكك الروابط بين ذرات الهيدروجين والكربون التي تُكوِّن جزيئة الميثان CH₄ بسبب التفاعل مع ثنائي الأكسيجن O₂ لتُنتج مُركبات أخرى، هي ثنائي أكسيد الكربون CO₂ والماء H₂O، عندما تتكون هذه الجزيئات الجديدة يتم تحرير قدر كبير من الطاقة على شكل حرارة، وهذه الحرارة تُحفز استمرار تفاعلات أخرى من نفس النوع. وتبعاً لذلك،يستمر تحرير الطاقة الحرارية التي يتم اِمتصاصها من طرف المواد التي توجد بجوار التفاعل كما تصدر طاقة أخرى عن التفاعل على شكل ضوء، وهذا الضوء هو ما يُميز هذا التفاعل الكيميائي عن باقي التفاعلات الكيميائية الأخرى.

عندما نتكلم عن النار فإننا بالضرورة نقصد تفاعل الاحتراق؛ وهو تفاعل كيميائي مثله مثل باقي التفاعلات الكيميائية التي نعرفها، غير أنه إضافة إلى الطاقة الحرارية الكبيرة التي يُحررها، فإنه يتميز كذلك بإشعاع ضوء عن طريق لهبه بفعل درجة الحرارة المرتفعة في تلك المنطقة، وهنا يجب أن نعرف كل مصطلح على حدة كي نفهم جيداً ماذا نقصد بكل مفهوم من المفاهيم التي أتت في تعريف النار : الحرارة، اللهب والضوء.

لهب موقد غاز بنسن

▪لنبدأ أولاً بتعريف الحرارة، وطرق انتقالها:

ما نسميه بالحرارة على المستوى الماكروسكوبي ما هي في حقيقة الأمر إلا متوسط الطاقة الحركية الميكروسكوبية للجسيمات الصغيرة التي تُكون المادة، كالذرات والجزيئات، ولا يمكن استيعاب مفهوم الحرارة بعيداً عن إدراكنا لها لأنها ليست شيئا كائنا بذاته بل نحن من يخلق هذا المعنى الحراري، لأنه مُرتبط فقط بمستشعراتنا البيولوجية، مفهوم الحرارة إذن شيء يتعلق بالمستشعرات التي نمتلكها في أجسامنا في ارتباط بإدراكنا لها وبترجمة أدمغتنا للإشارات التي تصلها من المستشعرات الحسية. تلك السخونة والبرودة التي نشعر بها عندما نلمس الأشياء إذن  ليست سوى صناعة دماغية، لكن من الناحية الفيزيائية، لا يوجد شيء يمكننا أن نسميه بالحرارة على المستوى الميكروسكوبي، فعندما نتكلم عن الحرارة فإننا نقصد بذلك حركية الدقائق التي تُكوِّن المادة على المستوى الميكروسكوبي، وفي غياب المادة لا يمكن أن نتكلم عن شيء اِسمه الحرارة، لأن الحرارة مرتبطة بتذبذب الدقائق الصغيرة المكونة للمادة، أما درجة الحرارة التي نقيسها بالمحرار على المستوى الماكروسكوبي فتُمثل متوسط منظم السرعة لمكونات المادة على المستوى الميكروسكوبي. وهنا نكون قد وضحنا معنى ومفهوم الحرارة من الناحية العلمية.

لنتطرق الآن إلى تقديم الطرق التي تنتقل عبرها الحرارة من وسط إلى آخر، تنقسم هذه الطرق إلى ثلاثٍ وهي : التوصيل الحراري، الانتقال الحراري والإشعاع الحراري.

École vecteur créé par brgfx – fr.freepik.com
تم إضافة الترجمة للعربية

• التوصيل الحراري : وهو انتقال الحرارة عبر المادة من وسط الى آخر دون انتقال للمادة، إذ تنتقل الحرارة عبر تبادل الطاقة الحركية الميكروسكوبية عبر تذبذبات الجزيئات والذرات على المستوى الميكروسكوبي.

• الانتقال الحراري : يتم هذا الانتقال عبر انتقال المادة بواسطة ما يسمى بتيارات الحمل الحراري، والتي نشاهدها مثلاً عندما يكون هناك إناء به ماء في حالة غليان، حيث تتكون تيارات حرارية تنقل الحرارة بين أماكن ذات درجة حرارة مختلفة، في الإناء مثلا يكون سطح التماس مع النار أحر من سطح التماس مع الهواء، مما يكون تيارات حرارية تجعل الماء يغلي .

• الإشعاع الحراري : يتم هذا الاخير عبر الموجات الكهرومغناطيسية والتي تقوم بتهييج الذرات والجزيئات حيت تكسبها طاقة حركية، وبذلك ترفع درجة حرارة المادة عبر رفع الطاقة الحركية الميكروسكوبية للجسيمات الصغيرة.

والآن بعدما عرَّفنا مفهوم الحرارة وطرق انتقالها، سوف نتطرق لتعريف معنى اللهب ومما يتكون، اللهب هو الجزء المضيء أثناء عملية الاحتراق، في هذا المكان حيث تتم كذلك تفاعلات كيميائية ولكنها بدرجة أشد لأنه في هذه المنطقة تكون الاصطدامات قوية بين ثنائي الأكسجين والدقائق المتكونة من ذرات الكربون، عندما تبدأ عملية احتراق المواد الصلبة مثلاً ، لا يستمر التفاعل على سطح المادة المحترقة فقط، بل يتم تفكك عدة دقائق (تتكون من العديد من ذرات الكربون) عن المادة المحترقة ثم تصعد بفعل تيارات الحمل الحراري عِدة سنتيمترات كثيرة فوق سطح المادة المحترقة حيث يتكون اللهب، في هذا المكان المُلتهب يكون الاصطدام فعالا بين دقائق الكربون وثنائي الأكسجين، ونتيجة لتكون ثنائي أكسيد الكربون والماء أثناء التفاعل، فإنه يتم تحرير طاقة كبيرة على شكل حرارة والتي تؤدي بدورها إلى رفع درجة حرارة الوسط التفاعلي بمكان اللهب إلى درجات مئوية عالية تتعدى ال 1000 ألف درجة مئوية، الشيء الذي ينتج عنه تهييج الذرات والجزيئات التي توجد في الهواء بمكان اللهب مما يجعلها تتصرف بنفس طريقة إشعاع الجسم الأسود حيث يتزايد إرسال الموجات الكهرومغناطيسية إلى أن يصل إلى الأشعة تحت الحمراء وكذلك موجات في الطيف المرئي للعين البشرية، وهو الضوء الذي نراه يومياً عند كل اِحتراق.

▪ملحوظة

ليست فقط المواد العضوية هي ما تحترق بالمفهوم العامي أي تتفاعل كيميائياً لتنتج طاقة حرارية وضوءا، بل هناك مواد أخرى غير عضوية يمكنها هي الأخرى أن تتفاعل وتعطي ضوءا وحرارة، كالصوديوم Na مثلاً أو غاز ثنائي الهيدروجين H₂.

▪خلاصة

النار من وجهة نظر علمية ليست إلا تفاعلا كيميائيا مُحررا للحرارة يحدث بين المواد العضوية و ثنائي الأكسجين، ونتيجة لهذا التفاعل الكميائي فإننا نلاحظ منطقة اللهب التي تكون درجة حرارتها مرتفعة جداً وهي المنطقة التي يكون فيها التفاعل فعّالا جداً، ومنه فإنها المنطقة التي تحرر قدرا كبيرا من الطاقة الكهرومغناطيسية التي يتحول جزء كبير منها إلى طاقة حرارية عبر تهييج الذرات والجزيئات الموجودة هناك، إذ تبدأ بالتذبذب بسرعة كبيرة على المستوى الميكروسكوبي مما يرفع درجة حرارة الوسط، وجزء من هذه الطاقة ينبعث على شكل طاقة كهرومغناطيسية منها ما هو مرئي وهو لون اللهب الذي نراه ومنها ما هو أشعة تحت الحمراء غير مرئية بالعين المجردة.

• لماذا يصدر الضوء عن تفاعل الاحتراق ؟

نفسر الضوء الذي ينتج عن الاحتراق بنفس الطريقة التي نفسر بها إشعاع الجسم الأسود، عندما ترتفع درجة حرارة جسم معين فإنه يبدأ بإشعاع موجات كهرومغناطيسية بسبب التهييج الذي يحدث للذرات والجزيئات بفعل الحرارة التي ينتجها التفاعل-الاحتراق- ويكون أغلب الضوء الصادر عن التفاعل من المنطقة التي تُسمى باللهب، حيث تكون درجة الحرارة مرتفعة جداً، والاصطدامات فعَّالة، ومنه تنتج تفاعلات كيميائية سريعة وقوية.

• هل النار شيء آخر غير المادة والطاقة اللتان نعرفهما ؟

ما نسميها بالنار ما هي إلا نتيجة لإعادة ترتيب الذرات المُكونة للجزيئات بطريقة مختلفة حيث تتكون مركبات أخرى كما أسلفنا الشرح، ونتيجة لذلك فإن التفاعل يُحرر قدرا كبيرا من الطاقة الكهرومغناطيسية، والتي تؤدي بدورها إلى رفع درجة حرارة الوسط عبر تهييج مكوناته الميكروسكوبية وإكسابها طاقة حركية كبيرة، الشيء الذي ينتج عنه ما نشعر به على شكل حرارة، كما أن هذا الارتفاع الكبير في درجة حرارة الوسط يؤدي إلى تهييج الذرات والجزيئات مما يجعلها تُشع موجات كهرومغناطيسة، منها ما هو ضوء ومنها ما هو أشعة تحت الحمراء.

باِختصار،النار عبارة عن تفاعلات كيميائية مُحررة للطاقة الحرارية والضوء والأشعة تحت الحمراء، إذن،هي عبارة عن خليط من المادة والطاقة الكهرومغناطيسية ولا شيء آخر غير ذلك وكل من المادة والطاقة الكهرومغناطيسية أشياء محسوسة نستطيع الكشف عنها عبر أجهزتنا العلمية في المختبر ولا شيء في النار غير محسوس أو غير قابل للإدراك والاستشعار!

▪ مصطلحات :

Feu : النار
Chaleur : الحرارة
Flamme : لهب
Bloquée cinétiquement : مُتوفق حركياً
Réaction exothermique : تفاعل محرر للحرارة
Réaction endothermique : تفاعل ماص للحرارة
Combustion : احتراق
Rayonnement thermique : إشعاع حراري
Conduction thermique : توصيل حراري
Convection thermique : انتقال حراري
Excitation : تهييج
Rayonnement du corps noir : إشعاع الجسم الأسود
Energie cinétique : الطاقة الحركية
Température : درجة الحرارة
Choc éfficace : اِصطدام فعَّال

إعداد : شعيب المستعين

مراجعة علمية : اسماعيل علوي

مراجعة لغوية : عبدالله ملوان، نادية بوحفص، ذ.أيمن المرشد.


اقرأ أيضا :

choaib el moustaine

Read Previous

معجزة الحدس الفيزيائي لدى الفيزيائيين

Read Next

صور حقيقية لسفن معلقة في الهواء ! ما السبب يا ترى ؟

3 Comments

  • مقال رائع

  • مقال رائع مشكور
    فقط سؤال
    هل يمكن أن أخذ المقال اعدل عليه واقوم بترحمته الانجليزية واعادة نشره
    مع ذكر المصدر بالطبع
    شكرا

  • خلافا لما نعرفه عن المنهج العلمي أرى هذا المقال مسير بطريقة مختلفة فلا يوجد رابط قوي بين العنوان والموضوع إلا الايحاء وأخشى أن يكون الأيحاء في اتجاه لا يرضى الكثير لذا لم يتم التصريح ، وترك كل واحد وما يفهم
    لا استطيع الجزم بما وصلني من إيحاء حتى لا اتجنى على صاحب المقال ولكن اظن وجب عليه التوضيح أكثر فيما يتعلق بالعنوان وعلاقته بسياق المقال

Leave a Reply

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني.

error: Content is protected !!